top of page

لِمَ أدورنو؟

تاريخ التحديث: ١٩ أغسطس ٢٠٢١

تأليف: جون هولواي*

تر: حسين الحاج

_____________________


فصلان للمنظّر الماركسي جون هولواي من كتاب «الجدل السلبي والثورة: أدورنو والنشاط السياسي» عن دار بلوتو برس (2009).


* جون هولواي (1947): مُنظر ماركسي أيرلندي مقيم بالمسكيك من تيار الماركسية المفتوحة.


تُنشر الترجمة بإذن من المؤلف كما تنشر بالمشاركة مع موقع كتب مملة


إهداء الترجمة إلى أحمد حسان ومريم سليمان


 

مقدمة المترجم:

إن كتاب الجدل السلبي هو العمل الفلسفي اﻷخير الذي نشره الفيلسوف اﻷلماني ثيودور أدورنو خلال حياته، ونظرًا لتعقيده البالغ لم يلفت النظر كثيرًا مثل دراساته النفسية والثقافية اﻷشهر حول الشخصية السلطوية وصناعة الثقافة، لكن المنظر الماركسي جون هولواي يفتح هذا الكتاب كي يعقد علاقة بين أدورنو والماركسي اﻹيطالي ماريو تورنتي -أحد مؤسسي تيار اﻹستقلالية الذاتية- حيث يتشارك كلاهما نقطة بداية الجدل من النفي (لدى أدورنو) والرفض (لدى تورنتي). تعلن الكلمات الافتتاحية لكتاب أدورنو غايته في تحرير الجدل من تراثه اﻹيجابي، وفي الجزء الثاني من هذا النص، يصحح هولواي مسار الجيل الثاني من تيار اﻹستقلالية الذاتية (الممثل في أعمال أنطونيو نيجري ومايكل هارت) باﻹشارة إلى العواقب السياسية لرفض الجدل من خلال الفصل بين استقلال ذاتي إيجابي واستقلال ذاتي سلبي.


يحاجج هولواي أنه من الضروري -نظريًا وسياسيًا- تطوير مفهوم اللاهوية من خلال استخدام الجدل السلبي، ﻷنه يرى الجدل بصفته حركة من التحرر واﻹنفتاح، وأن اللاهوية تتحرر من الهوية وتفتح الطريق ﻹبداع شيء جديد، لذا تصبح حركة اللاهوية هي حركة اﻹبداع. لكن هذه الحجة هي تحدي واستكشاف، ﻷن حركة النفي هي حركة تفجّر المفاهيم والسلطة والهوية وكل شيء مألوف بالنسبة لنا، حيث أنها تنفتح على عالم مخيف ومدوّخ يجب علينا فيه مساءلة كل شيء حولنا، ولذلك فهي ليست حجة دوجمائية عن اليقين، بل عن التساؤل الدائم.


قدم هولواي هذين الفصلين في السياق الذي رفعت فيه حركة الزاباتسيتا في جنوب شرق المسكيك شعار "نسير دومًا متساءلين" كمبدأ لممارستهم السياسية، وما فعله هولواي أنه جذّر هذا المبدأ في صلب الفكر الفلسفي اعتمادًا على فلسفة ثيودور أدورنو حول الجدل السلبي.

 

1


لِمَ تجب قراءة أدورنو؟ فأدورنو صعب القراءة. بل أسوأ من ذلك، فقد اتصل بالشرطة في العام 1969 حين احتل الطلاب معهد البحوث الاجتماعية في فرانكفورت. إذًا، لِمَ نلتفت إليه اليوم في الوقت الذي نسعى فيه إلى شحذ نقدنا للرأسمالية لا أنْ نصبح متخصصين في فكره أو فكر مدرسة فرانكفورت؟


نجد في القلب من فكر أدورنو الانقطاع والتمرد والهشاشة وانعدام اليقين والانفتاح واﻷلم، ولذلك نعتبره شائقًا للغاية.


إن نقطة البدء، عنده كما عندنا، هي الفشل السياسي النظري للماركسية اﻷرثوذكسية، «بعد أن أجهضت محاولة تغيير العالم» وبعد «أن ضاعت فرصة تحقق [الفلسفة]»، كما قال في السطور الافتتاحية من كتابه الجدل السلبي. ما من يقين بعد ستالين ومعسكر أوشفيتز وقنبلة هيروشيما، وقبل هذا وذاك ما من ضمانة لنهاية سعيدة. لذا من الضروري أن نتخلى عن فكرة الجدل باعتباره عملية من النفي يقود إلى التوليف، أي يقود فيه نفي النفي إلى نهاية إيجابية. فاليوم ما من طريقة يمكن عبرها تصوّر الجدل سوى الطريقة السلبية، باعتباره حركة للنفي بدلاً من حركة للتوليف، أي باعتباره جدلاً سلبيًا.


لكن لماذا نهتم بالجدل من اﻷساس وقد «انحطت المادية الجدلية» اﻷرثوذكسية إلى «عقيدة مغلقة»؟ لقد أخذ آخرون مسارًا عكسيًا وقرروا رفض الجدل والتأكيد على المادية (مثل أنطونيو نيجري، لكن أيضًا تيار ما بعد البنيوية بأكمله: فوكوه ودولوز وجاتاري وفيرنو وآخرون -الذين أصبحوا حاليًا مؤثرين بشدة في الفكر المناهض للرأسمالية). يعني التركيز على أدورنو مساءلة المسار ما بعد البنيوي الذي شقه أولئك المؤلفون.


لماذا نهتم بالجدل إذًا؟ يجيب أدورنو بأن الجدل ليس موقفًا، لكنه يعبر عن العجز الحتمي للفكر، العلاقة المفككة بين الفكر وموضوعاته. «إن مصطلح الجدل ابتداءً لا يقول لنا شيئًا أكثر من أن الموضوعات لا تتلبس مفاهيمها بدون أن تترك أثرًا من.. تناقض.. يدل على لا حقيقة الهوية وواقع أن المفهوم لا يستوفي الشيء المتصور». إن الفكر يُعرّف («أن تفكر يعني أن تُعرّف»)، لكن ما يجري التفكير فيه يتجاوز الفكر ذاته، وما الجدل إلا وعي الفكر بقصوره وباللاهوية المتضمنة بداخله، أما اللاهوية فتنفجر من داخل الهوية وتفيض عما يفرضه الفكر عليها. «التناقض هو اللاهوية تحت مظهر الهوية»، و«الجدل هو الحس المتسق باللاهوية».


هذا هو الموضوع اﻷساسي لفكر أدورنو: الجدل باعتباره الحس المتسق باللاهوية، بغير المتوائم. إنه أمر تحرري وثوري في آن. تحرريٌ لكون انعدام التواءُم والخصوصية غير قابلة للاختزال، واللاهوية غير قابلة للاحتواء، والمتمرد الذي لن يخضع إلى الانضباط الحزبي تؤلف جميعها محور ارتكازه وقوته الدافعة. وثوري لكونه بركاني متأجج. إن لم يكن ثمة هوية بخلاف الهوية التي تقوضها اللاهوية، عندئذٍ ليس ثمة إمكانية للاستقرار. فكل الهويات زائفة ومتناقضة وتقوم على نفي اللاهوية التي تقمعها وتحاول احتواءها دون نجاح، ولا يتمثل فشل احتوائها في سبب عرضي مثل انعدام كفاءة الشرطة، بل بسبب أن التعريف يجري دائمًا خلف تدفق اللاهوية دون أن يقدر على اللحاق به وتثبيته مطلقًا.


من الواضح أن اللاهوية هي بطلة العالم ومركزه والقوة المحركة له كما يقدمها أدورنو، لكن ما الذي نفهمه من اللاهوية؟ أهي مجرد مفهوم فلسفي أم عملية صياغة مفهوم لقوة اجتماعية؟ والإجابة بكل تأكيد إنّنا نحن اللاهوية ذاتها. إن القوة التي لا تتواءَم، القوة التي تناقض كل التعريفات، القوة التي تغمر وتفيض هي الذاتية، نحن. ومن نحن؟ نحن الذات التي لا يقدر على احتوائها ضمن أي تعريف. نستطيع أن نقول إنّنا الطبقة العاملة، لكن لن يكون لهذا معنى إلا إذا فهمنا «الطبقة العاملة» باعتبارها مفهومًا ينفجر ضد نفسه ويفجّر حدوده.


هل أدورنو يقول حقًا أننا لاهوية؟ على حد علمي لا. ربما أقرأ أدورنو بطريقة لاهوياتية، ضد أدورنو ومتجاوِزًا له، وإلا فكيف عسانا أن نفهم اللاهوية؟ إن اللاهوية وحدها القوة القادرة على تغيير نفسها، التي تمضي أبعد من نفسها، والتي تبدع وتخلق نفسها أيضًا. وأين نجد هذه القوة الخالقة والمبدعة لذاتها؟ لا في الحيوانات ولا اﻹله ولا الطبيعة، بل في البشر وحدهم، نحن. ليست "نحن" هوياتية، بل "نحن" مفككة وغير متوائمة وخلاقة.


هذه ليست "نحن" إنسانية ليبرالية، بل "نحن" تناحرية، ومتناحرة مع ذاتها قبل اﻵخرين. نحن جزء من كلية تناحرية فيها «الذات خصم الذات». ينشأ الجدل ﻷننا في المكان الخطأ والنوع الخطأ من المجتمع: «الجدل هو أنطولوجيا الحالة الخاطئة للأشياء، والحالة الصحيحة للأشياء ستكون خالية منها: لا نظامًا ولا تناقضًا». "نحن" الجدلية هي "نحن" التناقضية تحيا في المجتمع الرأسمالي وتقف ضده، "نحن" لاهوياتية طبقيًا.


2


يلتقي أدورنو بترونتي. في مقاله الأساسي، «لينين في إنجلترا» (نشر في 1964، أي قبل عامين من نشر أدورنو لكتاب الجدل السلبي)، كتب ترونتي أننا «نحن أيضًا اشتغلنا بمفهوم يضع التطور الرأسمالي أولاً والعمال ثانيًا. وهذا خطأ. واﻵن يجب أن نعيد المشكلة على رأسها ونعكس القطبية، ونبدأ مجددًا من نقطة البداية، وهي الصراع الطبقي للطبقة العاملة». هذه الكلمات بعيدة تمامًا عن أدورنو، لكن هنا يكمن السؤال المتشابك بين نظرية الاستقلال الذاتي والنظرية النقدية. لقد أعاد ترونتي (والمنظرين الممارسين للحركة العمالية اﻹيطالية operaismo) الماركسية اﻷرثوذكسية على قدميها ووضعوا صراع الطبقة العاملة (وليس رأس المال) في قلب تحليلهم. أعاد أدورنو (وأعضاء مدرسة فرانكفورت اﻵخرين) الماركسية اﻷرثوذكسية على قدميها ووضعوا اللاهوية في قلب تحليلهم. ربما لم يلتق أدورنو بترونتي حقًا ومن المحتمل أنه لم يكن ليريد ذلك، لكن يمكننا نحن أن نجعلهما يلتقيان.


«الجدل هو الحس المتسق باللاهوية». يعني الجدل التفكير في العالم من حيث ما لا يتلاءَم، من وجهة نظر غير الملائمين معه، من يجري نفيُهم وقمعهم، أولئك الذين يكسر تمردهم وعدم خضوعهم حدود الهوية، منا نحن الذين نوجد داخل-وضد-وفيما يتجاوز رأس المال. هذا بكل تأكيد مماثل لما شكله تورنتي في مشروع الاستقلال الذاتي: أقل وضوحًا من الناحية السياسية، لكنه يسبر أغوارًا أعمق من ذلك، ﻷن الهجوم على الهوية يمضي إلى جوهر الحياة ذاتها، إنه يمس مباشرة ماهيتنا وطريقة تفكيرنا. مشروع الاستقلال الذاتي للعمالية اﻹيطالية operaismo كان ملتبسًا تحديدًا لأنه لم يمضِ بعيدًا بما يكفي، ﻷنه لم يسائل المفهوم الهوياتي للطبقة العاملة بصفتها مجموعة بشر قابلة للتعريف. إنها تقلب علاقة رأس المال بالعمل على رأسها، لكن من أجل اتساقها، كان عليها أن تقلب العالم بأسره رأسًا على عقب وتضع اللاهوية في قلب الطريقة التي نتنفس ونفكر بها. إنه ذلك القصور الذي أدى فيما بعد إلى الاتحاد التعيس والبليد بين بعض مفكري الاستقلال الذاتي مع مدرسة ما بعد البنيوية، تقليدٌ ينكر مركزية الذات وبالتالي نضال الطبقة العاملة.


يستلزم تطور مشروع الاستقلال الذاتي (السعي نحو تقرير المصير الاجتماعي) النظرية النقدية (بالطبع كما يستلزم تطور النظرية النقدية مشروع الاستقلال الذاتي –وليست اجترارات هابرماس الديمقراطية الاجتماعية على سبيل المثال). لماذا؟ ﻷن مشروع الاستقلال الذاتي يضع نضال الطبقة العاملة (أو النضال المناهض للرأسمالية) في قلب فهمنا للعالم، بصفته قوة دافعة لا مجرد ردة فعل. وب