فهم الاقتصاد السياسي لدول الخليج: مقابلة مع آدم هنية
تاريخ التحديث: ٤ أبريل ٢٠٢١

نُشِرَت هذه الترجمة على موقع الحوار المتمدن وقد أنجزها قسم الترجمة في جريدة المناضلة. وهي جريدة مغربية أوقفتها السلطات المغربية فلجأت لنشر موادها على صفحات موفع الحوار المتمدن. لقراءة المقال باللغة الأصلية اضغط هنا
_______________________
شرعت حكومة المملكة العربية السعودية، في ديسمبر 2019، في خصخصة جزئية لمنشأتها البترولية، أرامكو السعودية، فيما بات يمثل أكبر إدراج بالبورصة في العالم إلى يومنا هذا. كان ذلك أشجع قرار جرى اتخاذه في إطار خطة الأمير السعودي محمد بن سلمان الرامية إلى تعديل مجمل اقتصاد البلد من أجل خلق نعيم نيوليبرالي.
وتتجلى ميول شبيهة في بلدان الخليج المجاورة حيث تتبوأ إجراءات من قبيل خفض النفقات العامة وخصخصة الأصول العامة مكانة هامة في الخطاب السياسي للمنطقة. وتلك بوجه خاص الحالة منذ فيض إنتاج البترول منذ العام 2014.
سعيًا إلى تحليل حالة الاقتصاد السياسي للخليج، قابل حمزة كولين آدم هنية.
آدم مدرس في شعبة دراسات التنمية في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. يفحص كتابه الأخير مال وأسواق وملكيات , Money, Markets, and Monarchies (Cambridge University Press, août 2018) كيف تُكيف دول مجلس التعاون الخليجي الست الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط الموسع. يتناول فيه الطبيعة الخاصة لرساميل الخليج ودورها في الأسواق الإقليمية والعالمية ومستقبلها في عالم ما بعد كوفيد-19.
*****
حمزة كولين: يعتبر الخطاب العام منطقة الخليج حالة شاذة، مكانًا حافظ على عناصر من ماضيه شبه الإقطاعي لكنه أفلح مع ذلك في التكيف مع الرأسمالية الحديثة. والإطار الرئيسي المستعمل لفهم هذه العلاقة هو نظرية الدولة الريعية. هل تكفي هذه المعالجة لفهم وقائع الخليج الاقتصادية والسياسية المعاصرة؟
آدم هنية : ثمة تنويعات عديدة من نظرية الدولة الريعية، لكن خاصيتها المشتركة تتمثل في سعي إلى تفسير الترسيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الخليج بمداخيل الدولة المستمدة من صادرات المحروقات. تسمى تلك المداخيل "ريوعًا" لأنها ناتجة في نهاية المطاف من مصادفة وجود موارد طبيعية على التراب الوطني. الفكرة الأساسية هي أن الإفادة من هذه الريوع يتيح لحكام الخليج استقلالًا وسلطة قويين جدًا عن باقي أقسام المجتمع. وقد جرى استعمال هذه الفكرة لتفسير أمور عديدة في الخليج من قبيل الاستبداد، وضعف المجتمعات المدنية، والتبعية إزاء شبكات الزبونية والمحسوبية، و"العقليات" الريعية ونماذج التنمية الاقتصادية.
وجلي اليوم أن صادرات المحروقات (بترول وغاز) ذات أهمية بالغة في الاقتصاد السياسي للخليج. لكن انتقادات عديدة صيغت حول كيفية الأخذ بنظرية الدولة الريعية لتفسير امتلاك الخليج ودول أخرى للموارد الطبيعية. بنظري، يكمن إحدى المشاكل الكبرى لنظرية الدولة الريعية في نأيها بالتحليل عن معالجة لمجتمعات الخليج بما هي رأسمالية، أي كبلدان لها خصوصياتها لكن لها مع ذلك نفس الدينامية الكامنة التي للرأسمالية بأماكن أخرى. يؤدي إخفاء الرأسمالية إلى فقد مقولة الطبقة. ويجري تصوير رأس المال الخاص كرأس مال ضعيف وناقص التطور، وإقلال أهمية العمل وبنية الطبقات العاملة. كما نكون إزاء فهم إشكالي بوجه خاص للدولة في منطقة الخليج.
وبالمقابل، أعتقد أن معالجة ماركسية لتشكل الدولة والطبقات طريقة لفهم الخليج أكثر إقناعًا وخصبًا بكثير. تجذب هذه المعالجة انتباهنا إلى جملة مسائل ومشاكل مختلفة. كيف تظهر طبقات رأس المال والعمل في الخليج، وكيف تترابط هذه الطبقات؟ ما هي اللحظات الرئيسية لتراكم رأس المال (الإنتاج، تبادل السلع والمالية، مثلًا) وكيف تترابط؟ ما هي الدينامية المكانية للتراكم في الخليج، أي كيف يتوسع التراكم عبر الدورات الوطنية والإقليمية والعالمية؟ وكيف ترتبط هذه الديناميات بدور الدولة الخاص في الخليج؟ كيف يمكننا وضع إطار مفاهيمي لمكانة الأسر الحاكمة إزاء الطبقة الرأسمالية، وعمل المهاجرين إزاء السكان المواطنين؟ كيف يجري إضفاء الطابعين العرقي والجنسي على الطبقات في الخليج؟ قد يكشف هذا النوع من الأسئلة أمورًا عديدة حول الخليج بما هو مجتمعات رأسمالية.
الأمر الآخر الذي تجنح إليه معالجات نظرية الدولة الريعية هو انتزاع الخليج عن السيرورات العالمية الأوسع، حيث يجري تناول مسائل من قبيل الامبريالية ودينامية السوق العالمية باعتبارها أمورًا ثانوية. لكن ما السبيل لتفسير "نقص الديمقراطية" في الخليج دون إبراز مركزية المنطقة بالنسبة للسلطة الأمريكية منذ أمد بعيد، أو دعم الدول الغربية العسكري والسياسي الثابت للأسر الحاكمة في الخليج؟ ومن المهم كذلك فهم تاريخ الاستعمار والحرب المسؤول بدرجة كبيرة عن أشكال وجود الخليج المعاصر.
النقطة الجوهرية هي أن بلدان الخليج ليس حالة شاذة غريبة بين الدول الرأسمالية بالعالم برمته. بل بالعكس- واعتقد أنه واقع لا تقدره أقسام من اليسار بالبلدان الغربية حق قدره- يمكن أن نتعلم من الخليج الكثير حول كيفية الاشتغال الفعلي للرأسمالية في أماكن أخرى أيضا.
ما هي البترودولارات، وهل لا تزال عاملًا مؤثرًا في النظام العالمي الراهن؟
البترودولار لفظ جرى اختراعه في سنوات 1970 لوصف المداخيل المتأتية للبلدان بفضل صادراتها من المحروقات. يمكن إنفاق هذا الرأسمال داخل البلد المعني أو "تدويره" في السوق العالمية. كانت البترودولارات مهمة تاريخيًا لتطور الأسواق المالية العالمية، وهي لا تزال مهمة اليوم.
ويمثل بزوغ "الأسواق الأوربية" مثلًا مبكرًا يوضح ذلك: يتعلق الأمر بالأسواق المالية التي تطورت في أوربا في متم سنوات 1950 وفي سنوات 1960، والتي لم تكن مندرجة في اختصاص أنظمة التقنين الوطنية، وكانت معفية إلى حد بعيد من الضريبة ومن قيود مالية وطنية أخرى. أصبحت لندن المركز العالمي الأساسي لعمليات السوق الأوربية، متيحة للبنوك وللمنشآت معالجة ودائع وسندات مُقوّمة بعملات غير تلك الخاصة بسوقها الوطنية. وعلى أثر تأميم شركات البترول في الخليج في سنوات 1970، وارتفاع أسعار البترول الكبير الناتج عن ذلك، بلغت ودائع البترودولار في بنوك أمريكا الشمالية وأوربا الفاعلة في السوق الأوربية مستويات مرتفعة جدا.
أدت تدفقات بترودولارات الخليج تلك إلى تنام كبير لمقدرات البنوك الدولية على التسليف للمنشآت العابرة للأوطان، وللحكومات ولمقترضين آخرين؛ وأسهمت في حفز تدويل الإنتاج الذي بدأ يتقدم بدءًا من سنوات 1970. كما قامت الأسواق الأوربية بدور أساسي في سريان أزمة ديون "العالم الثالث" على مر سنوات 1980. واضطرت بلدان الجنوب المحتاجة إلى مال إلى اقتراض البترودولار المدور بواسطة الأسواق الأوربية، متورطة بذلك النحو في علاقات استدانة مع المؤسسات المالية الدولية. وتمثل قوة حي المال في لندن في النظام المالي العالمي حاليًا إرثًا مباشرًا عن تلك الأسواق- ويظل موقع الخليج في هذا السياق هاما.
كما قامت بترودولارات الخليج بدور بليغ في بزوغ الولايات المتحدة الأمريكية وتوطدها بما هي قوة عالمية مسيطرة على مر النصف الثاني من القرن العشرين. وبقبولها استثمار مداخيل البترول في سندات الخزينة الأمريكية، وسندات القطاع الخاص والأسهم، وبتقويم سعر البترول بالدولار الأمريكي، أسهمت فوائض الخليج في توطيد تفوق الدولار بما هو "عملة عالمية".
كما جرى تدوير بترودولار الخليج في الأسواق الدولية بوسائل أخرى غير مباشرة، منها شراء بلدان الخليج مواد وخدمات أجنبية - و الأهم هنا بوجه خاص تلك المرتبطة بتطوير البنيات التحتية الحضرية، مثل الآلات وتجهيزات النقل، والهندسة الراقية وخدمات البناء. وطبعا، كانت إحدى سبل تدوير البترودولار الرئيسة شراء دول الخليج للمعدات والخدمات العسكرية. فقد اشترت بلدان الخليج الست، بين العامين 2015 و 2019، أكثر من خُمس الأسلحة المبيعة في العالم، وتتقدمها المملكة العربية السعودية مستوردًا أول للسلاح بالعالم والإمارات العربية المتحدة بالمرتبة الثامنة وقطر بالعاشرة. اشترت المملكة العربية السعودية وحدها ربح صادرات السلاح الأمريكية في تلك الحقبة، مقابل 7.4% في 2010-2014.
هل لك أن تحدثنا أكثر عن طبيعة الطبقة الرأسمالية في الخليج، وعلاقاتها مع الدولة ومع الأسر الحاكمة ؟
رساميل الخليج الكبيرة منظمة في الغالب في تكتلات كبيرة عاملة بمختلف قطاعات الاقتصاد، بالأخص في قطاع البناء والتنمية العقارية، والعمليات الصناعية (لاسيما الفولاذ والألمنيوم والخرسانة)، وتجارة المُفرَّق (حتى تجارة التوريد وملكية المراكز التجارية والمخازن التجارية) والمالية. وغالبًا ما تكون هذه التجمعات تحت تحكم الأسر ذات أصل في الأنشطة التجارية السابقة، ووثيقة الصلة بالأسر الحاكمة وببنيات الدولة في الخليج. دول الخليج كلها اليوم أنظمة ملكية من أنماط مختلفة، وتتحكم الأسر الحاكمة بجهاز الدولة وبقسم كبير من الثروة المستمدة من صادرات البترول والغاز.
يتوقف نجاح تراكم رأس المال في الخليج إلى حد بعيد على القرب من الدولة، وعلى دعم الأسرة الحاكمة. وقد يتجلى ذلك بمختلف الطرق: أراضي مدعمة وأشكال دعم أخرى، وعقود مربحة من الدولة لمختلف المشاريع، واستثمارات مشتركة بين رأس المال الخاص والدولة، ودعم سياسي ومالي من مؤسسات الدولة لاستثمارات التكتلات الخاصة بالخارج. إن طراز العلاقة مع الدولة هذا ليس ميزة خاصة برأس مال الخليج، فهي الطريقة العادية لقيام أي رأسمالي كبير بأعمال في أي بلد بالعالم اليوم.
ومن إرث مقاربات نظرية الدولة الريعية اليوم فكرة أن رأس المال الخاص في الخليج ضعيف وتحجبه دولة قوية. تقوم هذه الفكرة على نظر يفصل الدولة عن رأس المال، وهذا برأيي منهج خاطئ. في الواقع، غالبًا ما يتحكم أعضاء الأسر الحاكمة في مجموعات منشآت كبيرة بصفتها ممتلكات خاصة، ويجب بالتالي اعتبارهم جزءًا من الطبقة الرأسمالية الخاصة (وكذا كقسم أساسي من الكيفية التي تمارس بها سلطة الدولة). ففي قطر، مثلا، نجد بمجالس إدارة 80% من المنشات بالبورصة عضوًا بالأقل من أسرة آل ثاني الحاكمة، وهؤلاء يتصرفون بصفتهم الفردية وليس كممثلين للدولة. كما يمتلك محمد بن رشيد آل مكتوم، حاكم دبي، مساهمات خاصة في عدد هام من المنشآت الكبيرة في الإمارة، منها بعض أكبر الشركات العقارية والبنوك ومجموعة كبيرة للاتصالات.
باختصار، أرى أهمية في استعادة الصياغات الفكرية بصدد الخليج لتصور ماركسي لعلاقة الدولة والطبقة، أي معالجة تعتبر الدولة تعبيرًا مؤسسيًا للسلطة الطبقية في الخليج، وطبقة رأسمالية مفهومة ككيان يضم الأسر الحاكمة ونخب الدولة.
في كتابك Capitalism and Class in the Gulf Arab States (الرأسمالية والطبقة في دول الخليج العربية) تعتبر "الاستقرار المكاني" أداة هامة لتجاوز أزمات إعادة انتاج الطبقات العاملة بالخليج و تجزؤها. ما هي عناصر "الاستقرار المكاني" في الخليج؟ وكيف يجري الأمر ميدانيًا ؟
هذا التعبير مستعار طبعًا من عند دافيد هارڤي David Harvey [*]، الذي استعمله لوصف الكيفية التي غالبًا ما يعيد بها رأس المال تنظيم نفسه في المكان من أجل تجاوز لحظات الأزمة أو نقلها. أعتقد أن بوسعنا أن نلاحظ في الخليج نوعًا من السيرورة المشابهة فيما يخص عمل المهاجرين.
يمثل غير المواطنين نسبة ما بين 56 و82% من اليد العاملة بالمملكة العربية السعودية، وعمان، والبحرين والكويت؛ وزهاء 95% في قطر والإمارات العربية المتحدة. هذه الأرقام الناطقة مفيدة بشكل أساسي لفهم بنية الطبقات الاجتماعية في الخليج. فبفضل نظام الكفالة سيء الذكر (نظام يضع العامل المهاجر تحت الوصاية ويؤدي إلى استعباد حقيقي للأجير)، يكون العمال المهاجرون مرتبطين برب عمل فردي، ولا يمكنهم البحث عن فرصة عمل أخرى، ولا حتى مغادرة البلد بلا ترخيص. سواد هؤلاء الأجراء الأعظم مستخدم في القطاع الخاص- في قطاعات كالبناء، والعمل المنزلي وتجارة المفرق- وغالبًا بأجور هزيلة في ظروف عمل مطبوعة بفرط الاستغلال والخطورة. بهذا المعنى، يمثل استغلال يد عاملة مهاجرة عنصرًا أساسيًا في تراكم التجمعات التجارية التي تحدث عنها آنفا.
أحد عواقب تدفقات العمال المهاجرين هذه أن ملايين الأسر في جنوب آسيا، والشرق الأوسط وشرق أفريقيا وغيرها مرتهنة كليًا بالمال المرسل من العمال بالخليج. يوجد بالخليج من العمال المهاجرين أكثر من أي منطقة أخرى بالجنوب، وتمثل المملكة العربية السعودية وحدها ثاني مَصْدر لإرسال المال في العالم (ب