top of page

حَاجَتُنا لِعُروَةٍ رِفاقـيَّـة وُثْـقـى

يقعُ هذا المقال ضمن سلسلة مَقالاتٍ مُترجمةٍ تحرصُ صَحيفةُ المُتَلَمِّس على نقلها إلى العَربية لما فيها من مُتعة وفائدة. كُِتبَ المقال بدايةً لصالح مَجلة "جاكوبين" الأمريكيّة ذائعة الصّيت. بقلم جُودي ديِن؛ وهي أستاذة النّظرية السّياسيّة والإعلاميّة في جنيف، ونيويورك. كما حرّرَت أكثر من أحدَ عشَر كتاباً منها: الأُفق الشيوعي والدّيمقراطية وأوهام نيولبرالية أُخرى.

لقراءة المقال الأصلي باللّغة الانكليزية: [اضغط هنا] اشْتَغلَ على ترجمتِه: حَمزة بن جَعفر؛ كاتِب وُمترِجم من المَغرب.

 

أقصى الخطاب الفرداني لـ"العناية الذاتية"، لمدةٍ طويلة، مفهومنا عن العمل الجماعي لتحقيق الأهداف المشتركة. يتمحور الرباط الرفاقي حول مسؤوليتنا تجاه بعضنا بعضًا –مسؤوليةٌ تُبَلِّغنا حالةً أفضل وأقوى مما يمكن لأي منا بلوغها منفردًا.


تُتلى على أسماعنا أنَّ مشاكلنا يمكن حلَّها بالإبداع والابتكار والأفكار العبقرية الكبرى. بل يبدو، احتكامًا إلى هذا القول، أنَّ تلك الأفكار لن تحل فقط أزمة المناخ، بل ستقضي على التفاوت الحاد وعدم المساواة وتنتصر بالمعية على الكراهية العرقية. وللغرابة، توحد هذه الدعوة لإطلاق جماح التفكير والخيال طيفًا واسعًا يشمل عمالقة التكنولوجيا، وناشطين اشتراكيين، وسياسيين من التيارات السائدة، و"شيوعيين مترفين".


تحجب عنا هذه الوحدة الظاهرية رؤية مدى حِدة تلك الصراعات الكامنة وراء الرأسمالية والموارد والحدود والهجرة. تتوارى الانقسامات عن الأنظار محتجبةً وراء الفانتازيا القائلة بإمكانية وجود فكرة ما كبيرة بما يكفي، خلَّاقة بما يكفي، مبتكرة بما يكفي لحل جميع مشاكلنا -بسحر ساحر، على ما يبدو.

مثل هذا الوهم هو ما يعزز الاحتكام أو التوجه إلى المخيلة والإبداع. لكننا في الحقيقة نواجه صراعات جوهرية تتعلق بمستقبل مجتمعاتنا والعالم أجمع. وبما أنَّ التغيير الاجتماعي ليس تمرًا أنت آكله، فعلينا قبول حقيقة الانقسام ومعرفة إلى أي جانبٍ ننتمي والقتال لتعزيز هذا الجانب. وبدلًا من الحاجة إلى إقناع الجميع [بأفكارنا –المترجم] فكل ما نحتاجه هو إقناع ما يكفي من الجماهير بتحمّل مشاق النضال حتى الظفر.


المصدر: مواقع التواصل
جودي دين: (1961،...)

ليست الأفكار الكبرى ذات قيمة دون إطار يوجه العمل من أجل تحقيقها. لكن أعم حركات اليسار المعاصر، بالأخص في أمريكا وبريطانيا، عجزت عن تكوين مناضلين مُنَظَّمين وملتزمين وأشِدَّاء والحفاظ عليهم. مؤدى هذا العجز هو إبدال الانضباط الملتزم بالعمل الجماعي لأجل هدف مشترك بالبلاغة الفردانية حول العناية بالذات والرفاه.


تنم هذه الرطانة البلاغية، وما توصي به من ممارسات، عن مشكل حقيقي يتمثل في ندرة التنظيمات السياسية التي تحظى بقيمة لدى المنتسبين إليها وتدعم مطالبهم. في غياب هذه التنظيمات، يتوسل بعض اليساريين إلى وسائل التواصل الاجتماعي كما لو أنها منصات سياسية. غير أن اللجوء اليساري إلى العالم الافتراضي، أمام موجات الغضب التي لا تنتهي، قد ينم عن نزوغ مازوخي حاد.


ومَن يستخف بنا أشد الاستخفاف هم أولئك المفترض وقوفهم إلى جانبنا، يحدث الشيء نفسه عادةً حين تُقدِم مجموعاتٌ ما على وضع خططٍ أو فعالياتٍ تطال قضايًا آنية. يستهدفنا مناصرو الرأسمالية المتعصبون بالإهانات والانتهاكات المعهودة حتى نتجرع الذل ونفقد ثقتنا ببعضنا بعضاً. فالدعوة للعناية الذاتية تعالج أعراض عجزنا لا علة هذا العجز. إذْ تتجاهل ما نعوزه بحق: علاقة سياسية قوامها التضامن.

يقدم لنا تاريخ التنظيمات الشيوعية والاشتراكية شخصية "الرفيق" كتجسيد أيقوني لهذه العروة. تحدد الرفاقية، كصيغة للنداء ونموذج للانتماء وحامل للتطلعات، العلاقة بين كل من يقعون على نفس الجبهة من الصراع السياسي. تحيل الرفاقية، بتحاوزها لفكرة السياسة بوصفها شأنًا فرديًا، إلى التطلعات المبنية على أساس من التضامن اللازم لأجل تحقيق فاعلية سياسية جمعية. فمن أجل مناصرة تطلعات رفاقنا، نتجشم أعباء حضور لقاءات ما كنا لنعيرها أدنى اهتمام وننخرط في العمل السياسي الذي ما كنا لنقيم له الاعتبار ونعمل بكل همة حتى نكون على مستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقنا. بهذا نستشعر بهجة النضال الملتزم ومتعة التعلم من خلال الممارسة. بالرفاقية نتفوق على الرهبة التي كانت لتعترينا لو كنا لنواجه مشاكلنا منفردين كل على حدة. تجعلنا الرفاقية أقوى وأفضل حالًا على نحوٍ ما كنا لنبلغه أبدًا ونحن فرادى.

الكراهية العرقية في الميزان


لنأخذ على سبيل العبرة مثالا من تاريخ الحزب الشيوعي الأمريكي: محاكمة حزبية صورية عقدت في حضور جماهير غفيرة في هارلم سنة 1931 حيث قُدِّمَ العامل الفنلندي، أوغست يوكينن “August Yokinen”، للمحاكمة الحزبية على إثر دعاوى تتهمه بالتحامل العنصري والتفوق العرقي الأبيض والترويج لأفكار معادية لمصالح الطبقة العاملة. قرابة 1500 عامل، بيضًا وسودًا، حضروا مجريات المحاكمة التي أقامها الحزب الشيوعي في كازينو هارلم، إحدى أكبر صالات المنطقة. قام كليرنس هيثواي “Clarence Hathaway”، محرر أبيض في صحيفة “Daily Worker”، بتقديم حيثيات قضية المحاكمة، فيما نُصِّبَ ريتشارد مور، وهو من أبرز الأعضاء السود في الحزب وأمهرهم خطابة، كجهة الدفاع عن يوكينن. وكُلِّفَت هيئة المحلفين، المؤلفة من 14 عاملًا من السود والبيض بالتساوي، بإصدار الحكم النهائي.


كان يوكينن من بين ثلاثة عمال بيض من أعضاء الحزب الذين أنيطت بهم مهمة حراسة مدخل نادي العمال الفنلندي في هارلم حيث أقيمت حفلة رقص. لحظة وصول بعض العمال السود عند مدخل النادي، لم يُسمَح لهم بالدخول إلا على مضض وبعد طول تردد حتى كادوا أنْ يَهمّوا بالمغادرة بسبب ما عوملوا به من تجاف وصلف. في غضون هذه الواقعة، لم يكلف أي من الأعضاء البيض المنتسبين للحزب نفسه عناء الدفاع عن حق رفاقهم السود أو الترحيب بهم.



غلاف كتيب الحزب الشيوعي الذي نشر محاكمة يوكينين 1931 .

في خضم تحقيقات الحزب حول الحادث، أقر رفاق يوكينن بخطئهم، بينما حاول هو تبرير سلوكه مدعيًا أنَّه كان يظن أنَّ العمال السود سيدخلون لردهة المسبح بينما لا تروقه السباحة رفقة أشخاص سود.

مع وصول موعد مثوله أمام المحكمة الحزبية، اعترف يوكينن بخطئه الجسيم وتعهد بتصويبه من خلال الانخراط في العمل ميدانيًا في نضالات السود التحررية. بيد أنَّ المسألة المطروحة أمام أنظار محكمة الحزب كانت تدور حول فصل يوكينن من الحزب بسبب عنصريته وميولاته الشوفينية البيضاء، أو توقيفه لفترة مؤقتة مع إبقائه تحت الاختبار والمراقبة.


ركز هيثواي، في معرض تقديمه أدلة إدانة يوكينن، على أنَّ الأخير لم يخفق فقط في الالتزام بالتطلعات المساواتية للحزب الشيوعي، بل إخفاقه هذا هو ما يضعه في صف الأوباش وأرباب الإقطاع كون أدنى تعبير عن التفوق العرقي الأبيض هو تمكين للبرجوازية ونيل من التضامن الطبقي. قدَّمَ يوكينن، من خلال إخلاله بما يقتضيه الحزب من التزام بالمساواة العرقية، للعمال السود سببًا وجيهًا للشعور بالخذلان –خذلان الحزب والرفاق البيض.


نبه هيثواي هيئة المحكمة أنَّ الحزب يقف أمام محك حقيقي لإثبات التزامه الجاد بمحق كل أثر للشوفينية البيضاء بالنظر إلى أنَّ النضال لأجل اكتساب حقوقٍ متساوية للسود جزء لا يتجزأ من النضال البروليتاري. وسيكون فصل يوكينن من صفوف الحزب تجليًا كاشفًا عن هذا الالتزام. لكن هيثواي عرض أمام المحكمة مقترحًا قد يكون منفذًا إذْ يُخوِّل يوكينن بموجبه تقديم التماس للانضمام ثانيةً لقواعد الحزب شرط تسخير جهده في مناهضة التفوق العرقي الأبيض من خلال بيع صحيفة “Liberator” المهتمة بقضايا السود، إضافة إلى كتابة تقرير حول حيثيات محاكمته يدلي به في نادي العمال الفنلندي، عندئذٍ فقط سيكون مؤهلًا للانضمام للحزب ثانية.


نقلت مرافعة مور محور الاهتمام إلى حيث يقع العدو الحقيقي؛ أي إلى الطبقة الرأسمالية. حمَّلَ مور البرجوازية وملاك الأراضي، يعضدهم نقابيون واشتراكيون انتهازيون، وزر إفشاء لوثة الكراهية العرقية. لم ترمِ مرافعة مور إعفاء يوكينن من المسؤولية، فقد كان الجميع مذنبًا وكانت أيديولوجيا التفوق العرقي الأبيض الفاسدة تنِّز من كل مناحي الرأسمالية الامبريالية.


وجه مور سهام نقده إلى الحزب الشيوعي مُتسائلًا إنْ كان قد وفر القدر المطلوب من العمل التثقيفي المناهض للكراهية العرقية أو طور برامج لصالح الحركة العمالية تبرز جوهرية النضال ضد البطش والإعدام بدون محاكمة (Lynching) أو قام بمجهود جاد لاستئصال التحامل العرقي. حمَّلَ مور الحزبَ نصيبًا من مسؤولية الإدانة كونه لم يقم بأي مجهود في هذا الصدد ليخلص فيما بعد إلى أنَّ نهج النقد الذاتي، لا الفصل والإقصاء، هو السبيل الأصوب لتصحيح الوضع. من شأن النقد الذاتي أنْ يُمَكِّن الحزب من إثبات التزاماته بمحاربة الكراهية العرقية، في حين يُبقي النقد الذاتي على يوكينن ذخرًا مضافًا يقوي النضال العمالي الذي يستوجب تكاتف جهود كل العمال من أجل إسقاط النظام.


نبه مور هيئة المحكمة، في ختام مرافعته إلى خطورة تبني نهج الفصل من الحزب الشيوعي كأسلوب عقابي بالقول: "إني لأود أنْ يقع رأسي مفصولًا عن بدني من لدن رعاع الرأسمالية على أنْ أُفصَل من الأممية الشيوعية". قصد مور بذلك أنَّ إقصاء الشيوعي من حزبه وعزله عن باقي الرفاق ثم اجتثاثه ونفيه خارج حاضنة الرفاقية لهو قدرٌ أشد سوءً من الموت. حين يضحى العامل مفصولًا عن حركته فإنَّه يخضع لحكم بالموت الاجتماعي يجعله سيئًا كالرأسماليين أو أشد.


أنهى مور مداخلته بضرورة إدانة يوكينن مع واجب تحفظه على أولوية إدانة الرأسمالية لما تستولده من بؤس وإرهاب وبطش وتحامل. من هذا المنطلق، يتحتم على الحزب أنْ يدخر الرفيق يوكينن ويوفر له فرص التكوين حتى يتمكن من إثبات ذاته. وعلى الحزب أيضًا أنْ يستنهض كل قواه في صراع لا يلين ضد الشوفينية البيضاء وأي نزعة تحدق بوحدة الطبقة العاملة.


أدانت هيئة المحكمة يوكينن كما كان متوقعا، سيما أنَّه أقر بخطئه مسبقًا. وبينما استقر الإجماع على فصله من الحزب، انقسمت الآراء حول مدة الفصل بين ستة أشهر أو سنة كاملة. وافقت الهيئة كذلك على مقترح جهة الادعاء بأن ينخرط يوكينن، تصويبًا لسلوكه، في معركة التصدي للشوفينية البيضاء وتوزيع جريدة “Libera