حوار مع علاء اللّامي: نقدُ الجُغرافيا التَّوراتيّة خارج فلسطين
حاوَرَهُ: أنس الأَسعد
جَلَسَ الموتُ والقُوّة، بيدِه صولجانُ الثُّكْلِ، وباليدِ الأُخرى صَولجانُ التَّرمُّل... قامَ الزّابرون يزبرونَه ككرمَةٍ، والصّامدون يصمدونه ككرمةِ يقتلعونَه من الحَقلِ... سبع مرّاتٍ يُعزَفُ على ضربِ العودِ، انظروا الثّدي، الثّدي الإلهي، ثدي أشيرة وعناة... سبع مراتٍ يطبخُ الفتيانُ على النّار جَدياً بحليبِ أُمِّه والنعناع والزّبدة!
ملحَمة: مولد الآلهة، السَّحَر والغَسَق، تر: أنيس فريحة
-1-
سِجالٌ مفتوحٌ، هو التوصيفُ الأشملُ الذي يُمكنُ أنْ نَصِفَ بِهِ الكِتابَ الأخيرَ للكاتبِ والباحث العراقي علاء اللّامي (1955م) والذي حملَ عنوان: نقد الجُغرافيا التّوراتيّة خارج فلسطين، ودراسات أُخرى (240ص، الانتشار العربي، بيروت 2021) كتابٌ يبدو أنّ صاحِبَه أرادَ لهُ استكمالَ رحلةٍ بحثيَّة كان قد كثّفها في سنواتِه الأخيرة حول موضوعَةِ التَّأريخِ الفلسطينيّ، وذلك من خلال كتابٍ سابق عَنْوَنَهُ بـ: موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التّاريخ وحتّى الفتح العربي الإسلامي، 2019.

ولمَّا كُنّا أمامَ جُزءٍ ثانٍ يتخلّلُ عمليةَ التَّأريخ تلك، يصيرُ السؤالُ لازماً عن التّفاصيل التي تَميزُ العَملين عن بعضِهما؟ وما الأهدافُ التي شرعَ اللامي يُنجِزُها معَ هذه العطافة من اشتغاله في حقول الرّاهن أدباً وسياسةً، إلى التّوجُّه نحو تَفحُّصِ الأحافير التّاريخيّة وإشكاليّاتها الأكثر تعقيداً؟ أم أنّ لا انفصامَ بين هذه الحقول المُلِحَّة والمُتواشجة، فهي بطبيعة الحال لا يُمكِنُ أن تُؤْخَذَ على أنّها جُزُرٌ معزولة؟
امتثَلَ اللّامي، أو لِنَقُلْ لعلّه التزامٌ شخصيٌّ، لمنهجِه التّاريخيّ الآثاريّ (الأركيولوجي) الذي أرادَ أن ينتصرَ له في وجهِ موضوعِه النّقديِّ الأرأس في هذا الكتاب أي «الجُغرافيا التّوراتيّة خارج فلسطين» وبوجهِ الأسماء التي تبنّتْ حملَ لواء هذه المقولة، مُؤْثِرةً منهجيّةً أُخرى لا-تاريخيّة إلى التأثيل اللُّغوي (إيتمولوجيا) أقرب، وللمُنافَحة عنّه أشدّ حماسة، حتّى استحالتْ مَدرسةً عريضةً لها مُناصِروها وإِعلامُها وأَعلامُها، في وقتٍ تحتاجُ أفكارٌ أخرى أحياناً لفتَرَاتٍ أطولَ لتنتشرَ كُلَّ هذا الانتشار، فهل قُلنا: إنَّها إحدى تجلّياتِ اللَّا-عقلانيَّة التي أخذتْ تُغلّفُ مناهجَ التّفكير عالميَّاً، لا عربيَّاً فحسب، في الرُّبْعِ الأخيرِ من القرنِ العشرين، وما أسباب انتعاش هذا التّيار؟
عند هذا الحَدِّ، ولِمُسايرة فصول الكتاب النّقدية، علينا العودةُ أوّلاً، إلى عام 1985 للتَّذكير بتاريخ صدور الطَّبعة العربيّة الأُولى من كتاب المُؤرِّخ اللّبناني كمال الصّليبي: التّوراة جاءت من جزيرة العَرَب، (تر: عفيف الرّزاز) الذي أثارَ ضجّةً بمحتواه الصّادم لِمَا عُدَّ من بَدَهيّات الدِّعاية الصهيونيّة وتلفيقاتِها المُدَّعاة في المحافل السياسيّة والأكاديمية العالميّة. وصحيحٌ أنَّ نظرية الصليبي أُوِّلَتْ بشكلٍ شاذٍّ على أنّها دعوةٌ مُقترحَة لاختيار وطنٍ قوميٍّ آخرَ للصهاينة غير فلسطين، بيد أنّ الصّليبي كان صارماً في تفنيد هذه الإساءة أيّما كانت نيّةُ القائلينَ بها، لأنّه أساساً قد نَظَرَ إلى بني إسرائيل بوصفِهم شعباً مُنقرِضاً لا علاقة له بيهودِ اليوم، لكنّه في الوَقتِ عينِه لم يُزَعْزِعْ إيمانَه بنظريّته، وأصَرَّ عليها كما تُظْهِرُ مقابلةٌ له من أواخر المُقابلات قبل أن يُتَوفّى (2011م) أجراها معه الباحثُ الفلسطيني زياد مُنى، هذا الأخير الذي تابَعَ بدوره ذاتَ المسيرة والنّهج بكتابٍ عنونَه بـ: جغرافية التوراة – مصر وبنو إسرائيل في عسير.
لم تَكُفَّ شجرة التّفاح النيوتينية –والتوصيف للّامي – عن التَّداعي والسُّقوط منذ الـ1985، فبعدَ أن تجسّدت إحداها على شكلِ: مُعجمِ اليَمامة التّاريخي الذي اعتمدَه الصَّليبي أداةَ مُقارنَةٍ بين الجُغرافيا التَّوراتية من جهة والجُغرافيا العسيريّة من جِهة أُخرى، ها هي تُفاحاتٌ أُخَرُ – منها كِتابُ: الإكليل للهمداني- تَنهَمِرُ على رأسِ الحُجّة المُعاصرة لتيّار «التّوراة اليَمنيّة» إنْ صَحّتِ التَّسمية، ونقصدُ الكاتِبَ والباحثَ العراقيّ فاضل الرُّبيعي صاحبَ الباع الطّويل والتأليف الغزير في هذه الموضوعة، والذي له عَظيمُ أَثر بين المقروء والمرئيّ في العملِ على تجذير قراءَتِه التَّوراتية في الجُغرافيا اليمنيّة على وجهٍ خاص.
لكنْ، في الوقت الذي أخذتِ النَّظرية اليَمَنيّة تُمكّنُ لنفسِها صفوفاً داخل الإطار المَنهجيّ والمدرسيّ الفقه لُغَوي الذي دَشّنَهُ الصَّليبي، وقبلَ أن تُصبحَ النّظريةُ المُتّهَمَةُ بالسعي لخلقِ وطنٍ بديل لليهود - على تهافُت وضَحالة هذا الاتِّهام طبعاً- نَظريةً مُتَّهِمَةً لغيرِها ولكلّ من يأتي بخاطرٍ على انتقادِها، بأنَّهُ هو مَن يتبنَّى المَقولة الصّهيونية! قبل ذلك إذن، كانَ هناكَ مَساقٌّ نقديٌّ بدأَ يشقُّ طريقَه في تقويضها جدِّيَّاً، مَساقٌ يعتمدُ المنهجيّة التاريخيّة الآثاريَّة بدأَه الباحث والمؤرِّخ السُّوري فراس السّواح بكتابِه النّقديّ والمباشَر المُعَنْون بـ: الحدَث التّوراتي والشّرق الأدنى القديم 1997، يقول السّواح في مقدمته النّقدية: (لقد أدركَ الدكتور الصّليبي أنّ الدِّفاعَ عن تاريخيّة التوراة وفق المعطيات العلمية مسألةٌ خاسرة فقامَ بالتفافة بارعة على المُشكلة برمّتها ونقلِ مسرح الحدث التَّوراتي في فلسطين إلى غربيّ شبه الجزيرة العربية).

عليه، نجد أنّ كلامَ السَّواح يُمثّلُ اشتباكاً صريحاً مع الصِّليبي من حيث أنّ هذا الأخير أرادَ تأريخَ الأُسطورة التَّوراتيّة وخلقَ جغرافيا حقيقيّةٍ لها تستوعبُها، بعد أن باءت كلّ محاولات الاستدلال الحقيقيّ والواقعيّ على أرض فلسطين بالفشل، بمعنى آخر إنّ نقدَ السّواح للصليبي غيرُ مَعنيٍّ أبداً لا بالأُطُر الجغرافية، ولا بحملِ أضغاثِ الأيديولوجيا المأزومة والخرافة الصهيونيّة عبئاً على ظهره ليسُوحَ فيها بين الفراغات والأمكنة، مُستعيناً على ذلك بأحابيلَ لُغويّةٍ فيها الكثيرُ من التَّخيُّلِ والقليلُ من العقل. على ضوءِ ما سبق، تستضيفُ المُتَلَمّس الكاتب علاء اللامي للحديث عن مؤلَّفه الأخير بشكل أقرب.
-2-
* حبّذا لو قرّبنا الجوَّ المعرفي للكتاب من القارئ، وعن علاقتِه باشتغالاتِك الأثرية (الأركيولوجيا)، بوصفِها التيّار الذي تنتصر له – أنتَ مثلاً تنتقدُ الاسمَ الأبرز لتيّار «التّوراة اليَمنيّة» الكاتب فاضل الرّبيعي وأنّه جاء من خلفية أدبية وصحفيّة، في حين أنّك لستَ بعيداً عن هذه الأجواء ولكَ في الأدب والشعر أعمالٌ!
** ربّما يكون من المفيد أن أوضح أنني لا أعتبر نفسي منحازاً من الناحية البحثية إلى تيار أو مدرسة محددة بعينها؛ كأن تكون الآثارية "الأركيولوجية"، أو اللسانية بمختلف أنواعها وتفرعاتها، أو الإناسية "الانثروبولوجية"...إلخ، إنما أحاول ضمن وخلال منهجيتي ومقارباتي لموضوعات كتبي، ومنها كتابي هذا والكتب التاريخية القريبة منه، الاستفادة من جميع المدارس والتيارات والمنهجيات البحثية القديمة والحديثة التي أراها أكثر فائدة وتأثيراً في تحريك وتعميق وتوسيع مقارابتي البحثية في عدة اتجاهات ضمن محور منهجي رئيس واحد يتفرع باستمرار، مع إيلاء علم الآثار أهمية خاصة بعد أن جرى إهمالُه أو اعتماده بشكل لا يتناسب مع أهميته وفائدته البحثية، مُستقبلاً ربما سأولي أهميةً مماثلة لعلم المورثات الجينية رغم صعوبة وتخصصية هذا العلم الحديث الصاعد والمتفاقم الأهمية وعدم الاكتفاء بالتفسيرات الإتيمولوجية التأثيلية والتي باتت كما قلت أشبه باللعب بالألفاظ والكلمات يعبث بها كل من يجيد القراءة والكتابة!
وكنت قد أشرت - وإنْ بشكل غير مباشر في هذا الكتاب - إلى أن واحدة من نقاط الضعف المنهجية لدى بعض الباحثين في موضوع جغرافيا التوراة، تعويلهم على المنهجية التأثيلية اللغوية "الإتيمولوجية"، دون سواها، وإلى درجة مبالغ في سطحيتها وخفتها؛ وضربتُ أمثلة على ذلك من كتب الصليبي والربيعي وغيرهما، حتى صارت هذه "التأثيلية" مثيرة للعجب والهزء! أضف إلى ذلك أن أصحاب نظريات التوراة العسيرية أو اليمنية ورغم كلامهم المكرر والناقد للرواية التوراتية ولكنهم لو أمعنَّا النظر بمقولاتهم فإنّهم توراتيون ومن النوع المحافظ جداً لأنهم يعترفون بتأريخية التوراة الكاملة أو الجزئية ولكنهم يشكّكون أو يرفضون جغرافيتها فقط لينقلوها الى إقليم عسير أو اليمن بقضّها التوراتي وقضيضها، وكتبهم تكتظّ بالاقتباسات التي تمتح التأييد لنظيرياتهم تلك من نصوص التوراة؛ بكلمات أخرى: فهم لا يرفضون تأريخية التوراة ولا يرون فيها رواية خرافية ذات أهداف أيديولوجية تبريرية سلطوية أحياناً وتأسيس دينية أحياناً أخرى، وبهذا هم لا ينسفون الأساس التوراتي للرؤية والرواية الصهيونيتين كما نفعل نحن معشرَ نقاد الرواية التوراتية الجذريين والرافضين لتأريخيتها والكاشفين لتلفيقيتها بل هم يحاولون عملياً أن يعطوها مصداقية أكبر وبذلك فهم لا يختلفون عن التوراتيين المحافظين في التاريخ والأيديولوجيا والانثروبولوجيا والثيولوجيا بل في الجغرافيا وحسب ولكنهم عبثاً يفعلون!
أما بخصوص ملاحظتك حول إشارتي في الكتاب إلى خلفية الكاتب فاضل الرّبيعي الأدبية والصحفيّة فلم يكن القصد منها الانتقاص من الرجل بل هي أقرب إلى التعريف بخلفيات الباحث الذي تناولتُ بالبحث النقدي منجزه التأليفي، مثلما يفعل الناقد الأدبي حين يعرف بشاعره المنقود؛ فيقول إنه طبيب وشاعر في الوقت نفسه، في محاولة لتأكيد ملمح ما في نقده نتاجه الشعري؛ والربيعي يكتب ويتحدث في الإعلام بأسلوب لغوي أقرب إلى أسلوب الصحافة الأدبية والسّجالية السياسية منه إلى لغة البحث التخصصي الآثاري والتاريخي الذي يحتاج إلى لغة بحثية صارمة وتوثيق شديد الدقة، لغة ينبغي أن تنأى عن تهويمات اللغة الأدبية المفتوحة على التأويل والبلاغة أكثر من قربها إلى التعبير العلمي التجريبي المحايد وصعب التأويل، وهذا ما جعل تجربة الربيعي الكتابية "تتخذ شكل حملة إعلامية سجالية ذات نفحة أدبية وأيديولوجية دؤوبة وكثيفة، أكثر منها محاولة بحثية متأنية ومتعمقة"، كما قلت مستنتجاً في وصفي لتجربته في تلك الفقرة.