السّياب وجهٌ آخر | الضعيفُ القويّ يتلمّسُ سَوْرةَ الجَسد
تاريخ التحديث: ١ يناير ٢٠٢٢
مادة لـ: فراس حج محمد
يُعرَف الشّاعرُ في كثير من الأحيان بقصيدةٍ واحدة تصبح علامة دالة عليه، أو ديوانٍ على أحسن تقدير، فيشيع ذلك بين جمهور القراء، فيُنسَى شعرُه كلُّه ولا يُستعاد إلا في مناسبات البحث والتنقيب عن تلك الجوانب المخفية في الشعر لدراستها، طلباً للجدة والابتعاد عن التكرار. وليس بعيداً عن ذلك الشاعر بدر شاكر السياب الذي تُصادف في ديسمبر هذا العام (2021) الذكرى السابعة والخمسين لرحيله المبكّر، رحمه الله، حيث رحل شابّا عن عمر ثمانية وثلاثين عاماً، ولعلها مجرد صدفة قدر أن يتقارب يوم مولده في 25 ديسمبر 1926 مع يوم وفاته في 24 ديسمبر 1964، ليصيرَ الاحتفاء بذكرى الرحيل استذكاراً لازماً ليوم الميلاد؛ فالذكرى السابعة والخمسين للرحيل هي ذاتها الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.
لقد عُرف السياب أكثر ما عرف بقصيدة «أنشودة المطر»، وجاءت في ديوانٍ، له العنوان ذاته، فنسي القراء الديوان، وعرفوا القصيدة وأشاروا إليها وأشادوا بها، واقتبسوا مقدمتها وتناصَّ معها الشعراء، وذكرها أصدقاء الشاعر في أحاديثهم وذكرياتهم معه وعن القصيدة، ومنهم على سبيل المناسبة الشاعرة العراقية «لميعة عباس عمارة» التي جمعتهما علاقة حب فيما يظهر من كتابات النقاد والدارسين وتلميح الشاعرة ذاتها، فقد صرّحت في أحد لقاءاتها المتلفزة أن السياب قد أطلعها على قصيدة «أنشودة المطر» قبل أن تُنشرَ، بحكم أنّه كان يُطلعها على جديده أولاً بأول. إذاً، ربما يصحّ أن نقول: إنّ «أنشودة المطر» قد أكلت شعر الشاعر واختزلته، كما اختُزل غيره بقصائد منفردة.
خلّف الشاعر بدر شاكر السياب مجموعة من الدّواوين طُبعت تحت عنوان «ديوان بدر شاكر السياب- الأعمال الشعرية الكاملة»، ويضم أحد عشر ديواناً، ومجموعة قصائد أخرى لم تُنشَر في تلك الدواوين، وقد قام على هذا الجهد الباحث سمير إبراهيم بسيوني، وصدر في القاهرة عن مكتبة جزيرة الورد عام 2009 في (750) صفحة يضمّها مجلد واحد من جزأين من القطع الكبير بغلاف مقوّى.
تشير هذه المجموعة إلى أن الشاعر غزير الإنتاج؛ فقد كتب الشعر وهو ابن عشرين عاماً كما تشير «قصائد البواكير»، وما بين عامي 1941 وحتى 1964، أُنتِجت في هذه السنوات الثلاث والعشرين عشراتُ القصائد ووُلِدَتْ فيها آلافُ الأفكار والصور الشعرية، وعلى هامشها اشتعلت معارك التجديد في الشكل والمضمون. لقد كان شاعراً استثنائياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
في هذه الاستعادة الخاصة لأبي غيلان في ذكرى الحياة والموت لفتت انتباهي قصيدة «وغداً سألقاها»، وهي قصيدة قصيرة، لكنها تفتح الأفق على كثير من الحديث النصيّ في القصيدة ذاتها، وعلى ما تحيل إليه، وما تربط به من موضوع متشعب ومختلف، وما تومئ إليه في علاقته مع الآخرين، وخاصة تلك المرأة صاحب الضمير الغائب في النص. يقول السياب في القصيدة:
وغداً سألقاها،
سأشدّها شدّاً فتهمس بي
"رحماك" ثم تقول عيناها:
"مزّق نهودي ضمّ- أوّاها-
ردفي.. واطو برعشة اللهبِ
ظهري، كأن جزيرة العربِ
تسري عليه بطيب ريّاها"
ويموج تحت يدي ويرتجفُ
بين التمنع والرضا ردفُ
وتشبّ عند مفارق الشَّعَرِ
نار تدغدغها: هو السعفُ
من قريتي رعشت لدى النهرِ
خوصاته؛ وتلين لا تدري
أيّان تنقذفُ.
ويهيم ثغري و هو منخطفُ
أعمى تلمّس دربه، يقفُ
و يجسّ: نهداها
يتراعشان، جوانب الظهرِ
تصطكُّ، سوف تبلّ بالقطرِ؛
سأذوب فيها حين ألقاها!