أشأم من صحيفة المتلمس، وهي كتاب حمله المتلمس، من عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين وفيه الأمر بقتله، ففضّه، وقُرِئ عليه ما فيه ــوكان أُمّياًــ فقذفه في نهر الحيرة ونجا.
يَبدُو رثاءُ الذّات في الشّعر العربي منتعشاً كلّما ابتعدْنا عن الزّمنِ الجَاهلي التّأسيسيّ. فالشّاعرُ المثقّف القابض على قلقِه، وخيباتِه ودنوّ أجله لم يكن ابنَ البادية المَهموم بالثّارات والمُعتاد على اطّراحِ حروبها، بقدر ما كان أوّلاً: ابناً للمدينة، والأمصار الحَضَريّة المفتوحة. هنا أوّلُ من يخطر في البال، مالك بنُ الرّيب2 بعد أن نالتْ منه إحدى أفاعِي خراسان، فقال قصيدتَه الجَهيرة، التي يَصحُّ أن توصفَ بــ"أمِّ البَاب"؛ لصيتِها الذَّائع، وسنكتفي بالمَطلعِ منها:
أَلا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةًبجنبِ الغَضا أُزجي القِلاصَ النّواجِيا
لكنّ تدقيقاً في لحظة ابن الرّيب، والزّمن الذي عاش فيه، فإنّنا لا نجدهُ بعيداً كثيراً عن الزّمن الجاهلي؛ كونه عاش في زمن معاوية. بالتّالي لا يمكنُ القطع بينه وبين ما قبل الإسلام، بجدرانٍ صمّاء لا ينفذُ منها الشّعرُ إلا بصعوبة. إنّما يُمكن القولُ عن الإسلام منذ نشأته الأولى وصولاً إلى حدود النّصف القرن الهجري الأول، إنّه حالةٌ بعد- جاهلية، غضٌّ في تمدّنه، سطحيّ في عُمرانه، بناءً على ما تفطّن له ابن خلدون من مصطلحات. عليه فإنّ رثاء الذّات عند ابنِ الرّيب يبني على نفسه لا ليقولَ أنا جديدٌ وذاكَ قديم، على طريقة أبي نواس، الذي سيأتي بعده بما يقربُ المئةَ عام، زمن الرّشيد وابنيه. بل إنّ ابنَ الرّيب يؤسّسُ على نفسه دون أن يعي أيّ خطوط أو تقسيمات، يؤسّسُ على الذّهنية "الفطرية"، ولو أنّي لا أحب استخدام هذه الصّفة لابتذالها إسلاموياً في يومنا هذا. تلك الذّهنية إذن لا تقاطع بينه وبين الجاهليين، وكأنه وكأنهم من دائرتين مختلفين، إنّما تجعله جاهليّاً في ذاته. هذا ولم نقُل شيئاً عن أسبقياته الجنائية التي تدعمُ ملفّه بالانتسابِ إلى الجاهليين ونقصدُ هنا صعلكته.
ثانياً: بقدر ما كان الرّاثي نفسَه، فارساً أسيراً يهدِّئُ نزفَ جراحه الجسدية والنّفسية بالرّوميات كأبي فراس الحمداني، أو بالأدق أيضاً، ما بعد الرّوميات حيث يتجلّى رثاءُ النّفس بشكل أظهر عنده؛ إذ لم تعد مُسبّباتُ الجراحِ روميّةً بل عائلية. وذلك في بائيّته الاحتضارية الشّهيرة بأبياتها الخمسة، عندما راحَ يخاطبُ ابنتَهُ، بُعيدَ طعناتٍ نجلاء سدّدها له ابنُ أخته أبو المعالي بن سيف الدّولة(معكوس دايدالوس ـــ بيردكس، أنظُر المقالة السّابقة)
وكما فتّشنا عن مَردٍّ جاهلي لصدى رثاءِ ابنِ الرّيب، فوجدناه قائماً في الرّاثي ذاتِه، يصحّ أيضاً أنْ نفتّشَ لأبي فراسٍ عن مردّ جاهليٍّ. لكنّ أبا فراس عاش في القرن الرّابع الهجري، والحالة الجاهلية سواء بالتّقسيم المدرسي (الدّيني) للعصور، أو على صعيد الذّهنية، تلاشت على عكس المثال الأوّل، وبالتّالي لا يصح أن نعيدَ أبا فراس إلى نفسه، بل يجبُ أن نبحث له عن تقاطع ما. عندها ليس أدلّ جاهليّاً ولا أشهر من قصيدة عبد يغوث الحارثي، أسير يوم الكُلاب الثاني، وقتيله:
ألا لاتلوماني كفى اللّومَ ما بيافما لكما في اللّوم خيرٌ ولا ليافيا راكباً إما عرضتَ فبلِّغَننداماي من نجرانَ ألّا تلاقياوتضحكُ مني شيخةٌ عبشميّةكأنْ لم ترَيْ قبلي أسيراً يَمانيا4
ثالثاً: بقدر ما كانَ الرّاثي نفسَه، أميراً بونابرتياً سُلِب منه ما سُلِب، ونُفِي سياسياً كالمعتمد بن عبّاد، صاحب إشبيليّة، الذي أُعيد بالجَبْرِ المُرابطي إلى أغمات؛ رقعة الصحراء تلك التي لم يألفها من قبل:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورافساءك العيدُ في أغماتَ مأسوراترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا5
أو قوله في قصيدةٍ أشهر، وحسبنا منها المَطلع:
قبرَ الغريب سقاكَ الرائحُ الغاديحقّاً ظفرتَ بأشلاء ابن عبّاد6
ولو أنّ بعضاً من أصداء النّفي وأثره على النّفس المرثيّة عند المعتمد يتردّدُ ويتقاطع مع أثقل أساس من أساسات الجَاهلية، والشّعر العربي بأسره، وأقصد امرَأ القيس، الضّلّيل الذي قضى شريداً طريداً، بحلّته المسمومة وجِلدِه المتقطّع:
أجارتَنا إنّ المزارَ قريبوإنّي مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
بعد هذه المقدّمات الاستقصائية في ماهيّة رثاء النّفس، والتّي بعضها من الشهرة فلا يحتاجُ طولَ شرح، ووصولِنا إلى امرئ القيس، يمكنُ لنا أنْ نُذيّلَها بختامٍ وشيك نعبرُ من خلاله إلى موضوعنا الأساس، ألا وهو إلهُ التحوّلات، الصّغيرُ الذي لا يُمكنُ قبضُه: أُفنون التّغلبي. فكيف لامرئ القيس أن يوطّئ لأُفنون؟
بدايةً علينا أن نستذكرَ معاً الموقف الشّكي لعميد الأدب العربي طه حُسين من امرئ القيس والجاهليين بأسرهم، في كتابه المنهج "في الشّعر الجاهلي"، ونضعَ هذا الموقف مقدّمةً كبرى لما سنذهبُ إليه. فامرؤ القيس الكِندي، وإنْ كانَ ربّاً من أرباب الجاهليّة، فهوَ عند العميد قد يكون عبدالرّحمن بن الأشعث الكندي ليس إلاّ8. ذلك الثائر الأرستقراطي الذي حاولَ مُلكاً، عن حقيقة هذه المرة، ومات شريداً إنما في زمن عبدالملك بن مروان الأموي الأكثر وضوحاً وجلاءً من زمن جاهليّ مُغرقٍ بالانتحال. بيد أنّ مسألة الشك في ذاتها ليست هي موضوعنا، لكنّنا سنستعين بها في فهم التحوّل الذي خضع له الشّاعر أفنون التّغلبي، وهنا يأتي دورُ المقدّمة الصغرى: الميثولوجيا، كما يشتغل عليها في يومنا الرّاهن، الشاعر والباحث زكريا مُحمد، والذي لا يُسلِمُ عنُق امرئ القيس لمنهجيّة الشّك وكفى، فيستحيل هيكلاً لا روح فيه، بل يستعينُ عليه بضخّ السّحر في عروقه. وهذا برأيي يساعدُ أكثر في فهم كيف نبتت على أطراف مركزيّة امرئ القيس كلّ تلك الإحالات والتفاسير؟ حتّى وهو مشكوك بكينونته! ومع قراءة زكريّا محمد لأفنون، سنكتشف أنّ تلك المركزيّة لا تُصدِّر ما عندها من ميثولوجيا على سائر الشّعراء، إنما يحدثُ لها أن تستلفَ منهم أيضاً. وبذلك تستوي حكايةُ أشهر الشّعراء كامرئ القيس، مع حكاية شاعر مغمور كأفنون التغلبي، لتكشفَ عن مُتحوّلٍ كبير وكنزٍ ميثولوجي لا يقلّ خطورة عن الأوّل.
في كتابه "ذاتُ النّحيين، الأمثال الجاهلية بين الطّقس والأسطورة"، يتحدّثُ زكريا مُحمد في الفصل التاسع منه عن مَثَل "فلِمَ ربض الحمارُ، إذن؟" وقائلُ هذا المثل عند الأغلبية هو أفنون التغلبي، ولَوَاْنَّ الميداني، صاحب الكتاب الأشهر في بابه "مجمع الأمثال" يذهب إلى أنّ صاحب هذا المثل هو حندج ما غيره. وبما أنّ المَثلَ يُضربُ للشيء فيه علامةٌ تدلّ على غير ما يُقال لك، فقد وجد تجسيدَه في صلب حكاية الضّلّيل الذي حاولَ مُلكاً ومات، عندما ألبسه قيصر الثياب المسمومة وخرجَ من عنده، تلقّاه عيرٌ فربض، فتشاءم امرؤ القيس، فقيل: لا بأسَ عليك، قال: لمَ ربض العيرُ إذن؟ أي أنا ميت9. وهنا يُسائِلُ مُحمّد هل ابتدعَ امرؤ القيس هذا المثل على رأي الميداني أم استشهدَ به فقط، على رأي الأغلبية؟ عند هذه النّقطة نستطيعُ أن نقولَ إنّنا قد عبرنا إلى حِمَى أُفنون، فمَنْ هو هذا الإله الصّغير؟
III.
في مختاراته الشّعرية "المُفضّليّات"10 يوردُ المُفضّل الضّبي الكوفي (ت: بين 168هـ و171هـ) قصيدتين لأُفنون، الأولى وهي القصيدة المفتاح والأعظم دلالة في موضوعنا رثاء النّفس، وهي على صغرها (خمسة أبيات فقط) إلا أنّ دلالتها عُظمى. وقبل أن نخوضَ فيها، لابدّ من الوقوف على ترجمة أفنون، كما أوردها مُحقّقا المفضّليات: أحمد شاكر وعبدالسّلام هارون. فأُفنون لقبُه، أمّا اسمه هو: صُريم بن معشر، لقبه أُفنون بضمّ الهمزة، "وهو واحدُ الأفانين، وقال قومٌ هو جمع فَن، والجمعُ أفانين وأُفنون" قاله ابنُ دريد في الاشتقاق. ولُقّبَ بذلك لقوله في بيت "إنّ للشُّبّان أُفنونا"11 وينوّه المحقّقان في ترجمتهما له إلى خطأ البحتري في حماسته، والجاحظ في البيان والتبيين عندما أسمياه أفنون بن صُريم. لكن لندخُلْ في جو القصيدة، ثم نعُدْ لمعاني اسمه لاحقاً لما لتلك المعاني من أثر في تفكيك القصيدة واكتناه سيرته.
والقصيدة كما وردت في المُفضّليات كالتّالي:
أَلا لستُ في شيءٍ فَروحاً معاوياولا المُشفقاتُ إذ تبعنَ الحوازيَافلا خيرَ فيما يكذبُ المرءُ نفسَهوتقوالِه للشيء: يا ليتَ ذا ليَافَطَأ مُعْرِضاً إنّ الحتوفَ كثيرةٌوإنّك لا تُبقي بمالِكَ باقيَالعمرُك لا يدري امرؤ كيف يتّقيإذا هو لم يجعلْ له اللّهُ واقيَاكفى حزَناً أنْ يَرحلَ الرّكبُ غدوةًوأُصبحَ في أعلى إلاهةَ ثاوِيَا
أمّا قصّة هذا الرّثاء، كما أوردها مُحقّقا المُفضليّات (أحمد شاكر وعبدالسّلام هارون) وشارح المُفضليات (ابن الأنباري: ت328هـ) ومحقّق شارح المُفضّليات (كارلوس يعقوب لايل): أنّه لقي كاهناً، فسأله عن موتِه، فقال: تموتُ بمكانٍ اسمهُ إلاهة. (قارّة بالسّماوة) فمكثَ ما شاء الله، ثم سار إلى الشّام في تجارة، ثم رجع في ركب من بني تغلب، فضلّوا الطّريق، فلقُوا إنسانا فاستخبروه، فنعتَ لهم، وقال في نعته: إذا رأيتُم إلاهة، حيِي لكم الطّريق (أي استبان). فلمّا أتوها نزل أصحابُه وقالوا له: انزِل، فقال أُفنون: لا واللّه لا أنزل! فبينا ناقتُه ترتعي عرفجاً (نوعٌ من النّبت) إذ لدغتها أفعى في مِشفرها، فاحتكّت بساقهِ والحيّة مُتعلّقة بِمشفرها فلدغته في ساقه. فقال لأخ معه: احفر لي قبرا فإنّي ميت12، ثمّ رفع صوته وقال ما قال.
لا تبدو القصيدة مُعقّدةً في قراءتها الأولى، ولَوَاْنّ مُشكلاً طفيفاً في بيتها الأول يعترضُنا في الضّبط ليس أكثر، ففي حين ورد البيت الأوّل في المتن عند المفضّل (وعند شارحه بالضرورة)، كما هو أعلاه بضمّ التّاء، نجد إحدى المعالجات الإعرابية للقصيدة تروي البيتَ بطريقة مختلفة، رغم أنّ المصدر الذي اعتمدته هذه المعالجة، هو شارح المُفضّليات ابن الأنباري ومحققه كارلوس يعقوب لايل. ففي كتابِه "التّذكرة في علمِ العربية"13 يورد الدكتور مُحمّد قاسم البيت كالتّالي: ألا لستَ في شيءٍ، بفتح التّاء، وهذا لا يُغيّر في المعنى إنّما تجعلُه أكثر منطقيّة، كون العبارة تُطلقُ في معرض اليأس عموماً، ومنه ما جاءَ في القرآن "لستَ منهم في شيءٍ إنّما أمرُهم إلى الله" الأنعام 159، كما يستشهد د.قاسم. لكنّه يذهب بالكلمة الرّابعة مذهباً إعِرابياً آخرَ، فبدلَ أنْ تكونَ "فروحاً" بمعنى كثير الفرح، حسب المصدر الذي ينقلُ عنه. بدل ذلك نجدها في التّذكرة (ألا لستَ في شيءٍ، فروحَن، معاويا) كذا! ويتّضح من الرّسم أنّها وضعت بين فاصلتين- مُعترضتين على اعتبار أنّ الفاء اعتراضيّة، ورُوحَن: فعل أمر مبنيّ على الفتح لاتّصاله بنون التّوكيد الخفيفة، وجملة (روحن) اعتراضية لا محلّ لها. وإنْ قُلتُم: أليست إشارةُ المُحقق كارلوس لايل الذي يَنقُل عنه د.قاسم، إلى احتمالية الروايتين بين ضّم التّاء وفتحها كي تبدو أشد منطقيّة (ألا لستَ في شيء) Which seems to make better sense14 ثم ذهاب الدكتور قاسم للاستشهاد بالقرآن، تعزيزاً لهذا الرأي. قُلنا: بلى، لكنّها لم تردْ أيّ إشارة مثلها عند المُحقّق في (فروحاً) لتصبحَ (فروحن) وتُقلَب هكذا من الاسميّة إلى الفعليّة.
يتابٍعُ البيت الأوّل أصداءَ اليأس واللاجدوى في شطره الثاني: ليصفَ حالَ المُشفقات (النّساء) اللواتي يتبعن الحوازي (الكهّان) فلا يُغني هؤلاء عنهنّ شيئا ممّا يتمنّينه. ولِنَقِفْ قليلاً مع هذه الكلمة لأنها تُدخِلُنا في الجوِّ الأثيري/الأرواحي للقصيدة. يُفسّر الدّكتور جواد علي في مَعْلمَت